تفتح زكية داود في روايتها «Candida أو أيام هادئة في مراكش» (منشورات سيروكو) مساحة سردية تتحول سريعًا إلى مناظرة حية حول المجتمع المغربي: من الأسرة والفساد والدين والفردانية، إلى اللغة والهوية وعلاقتنا بالتاريخ والأجنبي. العمل، المستوحى من «كانديد» لفولتير، يستخدم شخصية «كانديدا» نصف المغربية لتفحص الواقع ببراءة متسائلة تكشف تناقضات السلطة والتمثلات التي نحملها عن أنفسنا والآخر.
تختار داود الشكل الروائي بدل التقرير السوسيولوجي حتى تتجنب قائمة جامدة بالمشكلات. تمنح الشخصيات أدوارًا ووضعيات اجتماعية تكفي لفهم زوايا نظرها من دون أن تتحول إلى بورتريهات مكتملة، ما يتيح حوارًا ليليًا متوترًا يلمّح بسخرية رصينة إلى مفارقات العيش في المدن المغربية، خاصة مراكش التي تصلها «كانديدا» وهي تردد أن «كل شيء على ما يرام في أفضل العوالم»، قبل أن تصطدم بأسئلة تقرر على ضوئها إن كانت ستستقر نهائيًا.
ترى داود أن «الفساد وبنية الأسرة وعلاقتنا بالأجنبي ومسألة الهوية» ليست مستجدات؛ إنها ثوابت مزمنة تتبدّل مظاهرها. المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة تغيّرت عمرانيًا، لكن تعريف «حداثتنا» ما يزال سؤالًا معلّقًا: نرغب في حداثة «خاصة بنا»، مغربية الجوهر، ونريد في الوقت نفسه تموضعًا كاملًا في العالم. هذا السعي ينتج تناقضات معلومة: بين «التقاليد والحداثة»، وبين الرغبة في التميز والاندماج تحت ضغط العولمة والنزعة الاستعراضية للبناء الجديد.
في قلب التحليل تقف اللغة. حين لا يُحسم سؤال اللغة، يصبح الدين علامة الهوية الأبرز. تعتبر داود الدارجة لغة حية وجريئة وشعبية وصريحة، وتدعو إلى تخيّل ما قد يتغير اجتماعيًا إذا مُنحت الاعتراف الكامل بوصفها لغة قائمة بذاتها. تلاحظ أيضًا كيف تكشف البنية اللغوية زاوية النظر إلى الذات: «في الدارجة، ليس أنا من فاتني القطار، بل القطار هو من فاتني»، وهي صيغة تعكس علاقة الفاعل بعالمه. هنا تبرز كلمات مفتاحية في النقاش العام: الدارجة، الهوية، التعدد، المجتمع المغربي.
مسار داود الصحافي، خاصة في مجلة «Lamalif» (1966–1988)، موّل خبرتها التراكمية في رصد التحولات: من وضع النساء والأطفال إلى علاقة المغاربة بالأجانب. ومع أن روايتها كُتبت قبل نحو عقد ثم عادت إليها بالتنقيح مرات عدة، فهي تؤكد أن جوهر الإشكالات لم يتبدّل كثيرًا، سوى «خراب» بعض العمران الحديث و«هَبريس» التفاخر الحضري المصحوب بورش لا تنتهي ورياضة صارت «باناسيا» اجتماعية.
تتوقف داود عند علاقة المغاربة بالأجنبي: في زمن الحماية كان «الأجنبي» فرنسيًا أولًا، واليوم تعقّد المشهد. في كتابها «Maroc – France, mensonges et préjugés» (منشورات La Croisée des Chemins، 2024) تتبع كيف ظل المستعمر يدور على هامش دائرة اجتماعية مغلقة لم يلجها فعليًا، وهي خصوصية ساهمت فيها سياسات ليوطي. كما تشير إلى أثر المقاومة بوصفها تربة الهوية الوطنية، وإلى التوترات الخفية المرتبطة بالمغاربة في المهجر حين يعودون بلا «كودات» محدثة فيبدو بعضهم غريبًا عن الإيقاع المحلي.
تقدّم داود قراءة للهوية بوصفها ثراءً وتوترًا معًا. المغاربة يمارسون يوميًا العيش في التعدد، لكنهم يحتاجون، كي «يصنعوا أمة»، إلى وحدة مرجعية؛ ووسط ذلك تتكاثر الولاءات الصغيرة: أنا وعائلتي، أنا وجيراني، أنا ومجتمعي، في مقابل «الآخرين». مع ذلك، تتكرس الوطنية عند المنعطفات الكبرى، وربما تكون هذه التناقضات مصدر قوة لا ضعف.
أخيرًا، ترى أن الاهتمام بالتاريخ حديث نسبيًا ونما خاصة في عهد الملك محمد السادس؛ حين نشرت «زينب، ملكة مراكش» لم تتوقع نجاحه، لكن الإقبال كشف حاجة ملحّة إلى «رواية تاريخية» تؤسس للتمثّل الوطني. كل الأمم تصنع سردها التاريخي؛ بلا ذلك تتلاشى القدرة على تعريف الذات.
هذا المقال مستند إلى حوار منشور في مجلة TelQuel